علم النفس الإيجابي هو مجال حديث نسبيًا في علم النفس يركز على تحقيق الرفاهية والسعادة من خلال دراسة العوامل التي تساعد الأفراد على العيش حياة مليئة بالمعنى والإيجابية. بدلًا من التركيز على معالجة الأمراض النفسية، كما فعلت الكثير من فروع علم النفس التقليدية، يهدف علم النفس الإيجابي إلى تعزيز الجوانب المشرقة في الحياة، مثل المرونة النفسية، التفاؤل، التفاعل الاجتماعي الإيجابي، والشعور بالإنجاز. في هذا الموضوع، سنتناول أبرز المفاهيم والنظريات المتعلقة بعلم النفس الإيجابي، بالإضافة إلى الطرق التي يمكن من خلالها تعزيز الرفاهية والسعادة.
1. تعريف علم النفس الإيجابي
تأسس علم النفس الإيجابي كفرع من فروع علم النفس في أواخر التسعينات على يد مارتن سيلجمان، وهو عالم نفس أمريكي معروف. على عكس علم النفس التقليدي الذي يركز بشكل أساسي على علاج الاضطرابات النفسية، يركز علم النفس الإيجابي على تعزيز الصفات الإيجابية للأفراد وتنمية قدراتهم الشخصية. سيلجمان نفسه يعرف علم النفس الإيجابي على أنه:
"دراسة الظروف والظواهر التي تساهم في ازدهار الإنسان ورفاهيته، مثل السعادة، والأمل، والإنجازات الشخصية، والتفاؤل، والحياة المعنوية."
2. العوامل المؤثرة في الرفاهية والسعادة
علم النفس الإيجابي يدرس العديد من العوامل التي تساهم في الرفاهية. يمكن تصنيف هذه العوامل إلى داخلية وخارجية، مثل:
أ. العوامل الداخلية
تتضمن العوامل التي تتعلق بـ التفكير الشخصي والأنماط الذهنية للأفراد:
• التفاؤل: التفاؤل هو الاعتقاد بأن الأمور ستسير بشكل جيد، ويُعتبر من أقوى العوامل التي تساهم في السعادة. تشير الدراسات إلى أن الأشخاص المتفائلين يميلون إلى أن يكونوا أكثر صحة وسعادة.
• المرونة النفسية: هي القدرة على التكيف مع الضغوط والتحديات. الأشخاص الذين يتمتعون بالمرونة النفسية يميلون إلى التغلب على العقبات بشكل أفضل، مما يساهم في شعورهم بالرفاهية.
• الامتنان: هو شعور الشكر والتقدير للأشياء الصغيرة والكبيرة في الحياة. تشير الأبحاث إلى أن الامتنان يمكن أن يعزز من مستوى السعادة ويقلل من مشاعر القلق والاكتئاب.
ب. العوامل الخارجية
تتضمن العوامل التي تتعلق بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش فيها الفرد:
• العلاقات الاجتماعية: تشير الأبحاث إلى أن العلاقات الاجتماعية الجيدة تشكل أحد أكبر العوامل التي تعزز السعادة. الأفراد الذين لديهم علاقات اجتماعية قوية، سواء مع العائلة أو الأصدقاء، يميلون إلى أن يكونوا أكثر سعادة.
• الإنجاز الشخصي: يمكن أن يشعر الأفراد بالرفاهية عندما يحققون أهدافهم الشخصية والمهنية. يساعد الشعور بالإنجاز في تعزيز الثقة بالنفس وبالتالي السعادة.
• الظروف الاقتصادية: على الرغم من أن المال ليس العامل الوحيد الذي يساهم في السعادة، إلا أن الاستقرار المالي يمكن أن يعزز الرفاهية ويقلل من الضغوط النفسية.
3. نظرية سيلجمان حول الرفاهية
أحد أهم المساهمات التي قدمها مارتن سيلجمان في هذا المجال هو نظرية الرفاهية (PERMA). هذه النظرية تتكون من خمسة عناصر أساسية تُعتبر ضرورية لتحقيق الحياة الطيبة والسعادة:
أ. P – الإيجابية (Positive Emotion)
تشير إلى الاستمتاع بالعواطف الإيجابية مثل الفرح، الحب، والرضا. التفاعل مع المشاعر الإيجابية بشكل متكرر يعزز من شعور الفرد بالسعادة.
ب. E – الانخراط (Engagement)
الانخراط في الأنشطة التي تُشبع الأفراد وتمنحهم شعورًا بالتحدي والقدرة على تحقيق تدفق ذهني (Flow). الأشخاص الذين يشعرون بالانخراط الكامل في أنشطتهم اليومية غالبًا ما يشعرون بالسعادة والرضا.
ج. R – العلاقات (Relationships)
العلاقات الاجتماعية الإيجابية مع الآخرين تعتبر من العوامل الرئيسية التي تساهم في الرفاهية. التواصل الجيد مع الأصدقاء والعائلة يعزز من الدعم الاجتماعي والتفاعل العاطفي.
د. M – المعنى (Meaning)
العيش وفقًا لمعتقدات ومعايير شخصية مهمة. الأشخاص الذين يشعرون أن حياتهم ذات معنى أو أنهم يساهمون في خدمة الآخرين غالبًا ما يشعرون برضا أعلى عن حياتهم.
هـ. A – الإنجاز (Accomplishment)
النجاح في تحقيق الأهداف والطموحات يعد عنصرًا هامًا في الرفاهية. السعي نحو الإنجازات وتحقيقها يعزز الاحترام الذاتي ويزيد من التقدير الشخصي.
4. استراتيجيات لتعزيز السعادة والرفاهية
علم النفس الإيجابي يقدم عدة استراتيجيات يمكن استخدامها لتعزيز الرفاهية والسعادة. من أبرز هذه الاستراتيجيات:
أ. ممارسة الامتنان
تشير الدراسات إلى أن ممارسة الامتنان اليومي (مثل كتابة مذكرات شكر) يمكن أن تعزز من السعادة بشكل كبير. يمكن للأفراد تخصيص وقت يومي للتفكير في الأمور التي يشعرون بالامتنان لها.
ب. الانخراط في الأنشطة المبهجة
من خلال الانخراط في الأنشطة التي تثير الفضول والإبداع، مثل ممارسة الرياضة أو الرسم أو حتى التطوع، يمكن للفرد أن يعزز من شعوره بالإيجابية والارتياح.
ج. تنمية العلاقات الاجتماعية
الاستثمار في العلاقات الاجتماعية يعد من أفضل الطرق لتحقيق السعادة. يمكن للأفراد تعزيز العلاقات الداعمة مع الأصدقاء والعائلة من خلال تخصيص وقت للقاءات وتواصل أكثر إيجابية.
د. ممارسة اليقظة الذهنية
تساعد ممارسات اليقظة الذهنية مثل التأمل والتركيز على الحاضر في تقليل التوتر وتعزيز الرفاهية العامة. تعتبر اليقظة وسيلة فعالة للتقليل من القلق وزيادة الشعور بالسلام الداخلي.
5. خلاصة:
علم النفس الإيجابي يعيد التركيز على ما يجعل الحياة جيدة، من خلال تعزيز الجوانب الإيجابية في شخصياتنا وحياتنا اليومية. باستخدام النظريات والإستراتيجيات التي يقدمها هذا المجال، يمكن للفرد تحقيق رفاهية أكبر وزيادة مستوى السعادة في حياته. في النهاية، السعادة لا تأتي فقط من تحقيق الأهداف أو امتلاك المال، بل من العلاقات الجيدة، الشعور بالإنجاز، والتفاعل مع العالم بإيجابية.
المراجع:
• سيليجمان، م. إ. ب. (٢٠١١). الازدهار: فهم جديد رؤيوي للسعادة والرفاهية. دار نشر فري برس.
• فريدريكسون، ب. ل. (٢٠٠٩). الإيجابية: بحثٌ رفيع المستوى يكشف عن نسبة ٣ إلى ١ التي ستُغيّر حياتك. دار نشر كراون.
• تشيكسينتميهالي، م. (١٩٩٠). التدفق: سيكولوجية التجربة المثلى. دار نشر هاربر آند رو.